فصل: من فوائد أبي السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال المفضَّل: السُّنَّة: الأمة، وأنشد: [البسيط]
مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ ** وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ

ولا دليل فيه؛ لاحتمال أن يكون معناه: أهل السنن.
وقال الخليل: سَنَّ الشيء بمعنى: صوره، ومنه: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28] أي: مُصَوَّر وقيل: سن الماء والدرع إذا صبهما، وقوله: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} يجوز أن يكون منه، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة.
وقيل: مسنون، أي: متغير.
وقال بعض أهل اللغة: هي فُعْلة من سَنَّ الماء، يسنه، إذا والى صَبَّه، والسَّنُّ: صَبُّ الماء والعرق نحوهما.
وأنشد لزهير: [الوافر]
نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ ** تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ

أي: يُصب عليها من العرق، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد، فالسُّنَّة بمعنى: مفعول، كالغُرْفَةِ.
وقيل: اشتقاقها من سننت النَّصْل، أسنّه، سنًّا، إذا حددته على المِسَن، والمعنى: أن الطريقةَ الحسنةَ، يُعْتَنَى بها، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه.
وقيل: من سَنَّ الإبل، إذا أحسن رعايتها، والمعنى: أن صاحب السنة يقوم على أصحابه، كما يقوم الراعي على إبله، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم أحسن رعايته وإدامته. وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة.
قوله: {فَسِيرُواْ} جملة معطوفة على ما قبلها، والتسبُّب في هذه الفاء ظاهر، أي: سبب الأمر بالسير لتنظروا- نَظَرَ اعتبار- خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم.
وقال أبو البقاء: ودخلت الفاء في {فَسِيرُوا}؛ لأن المعنى على الشرط، أي: إن شككتم فسيروا.
وقوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} {كيف} خبر مقدم، واجب التقديم، لتضمُّنه معنى الاستفهام، وهو معلق لانْظُرُوا قبله، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض؛ إذ الأصل: انظروا في كذا.
قوله: {للناس} يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له.
قوله: {لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز أن يكون وَصْفًا- أيضا- ويجوز أن يتعلق بما قبله، وهو محتمل لأن يكون من التنازع، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول. اهـ. بتصرف يسير.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد أبي السعود:

قال رحمه الله:
{هذا} إشارةٌ إلى ما سلف من قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} إلى آخره {بَيَانٌ لّلنَّاسِ} أي تبيينٌ لهم، على أن اللامَ متعلقةٌ بالمصدر أو كائنٌ لهم على أنها متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً له، وتعريفُ الناس للعهد وهم المكذبون أي هذا أيضاحٌ لسوء عاقبةِ ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر بالسير والنظرِ وإن كان خاصًا بالمؤمنين لكن العملَ بموجبه غيرُ مختصَ بواحد دون واحدٍ ففيه حملٌ للمكذبين أيضا على أن ينظُروا في عواقب مَنْ قبلَهم من أهل التكذيبِ ويعتبروا بما يعانون من آثار دمارِهم وإن لم يكن الكلامُ مَسوقًا لهم {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} أي وزيادةُ بصيرةٍ وموعظةٍ لكم وإنما قيل: {لّلْمُتَّقِينَ} للإيذان بعلة الحُكمِ فإن مدارَ كونِه هدىً وموعظةً لهم إنما هو تقواهم. ويجوز أن يُرادَ بالمتقين الصائرين إلى التقوى والهدى والموعظة على ظاهرهما، أي هذا بيانٌ لمآل أمرِ الناسِ وسوءِ مَغبّتِه، وهدايةٌ لمن اتقى منهم وزجرٌ لهم عما هم عليه من التكذيب، وأن يُراد به ما يعُمّهم ويعُم غيرَهم من المتقين بالفعل، ويُرادَ بالهدى والموعظةِ أيضا ما يعُم ابتداءَهما والزيادةَ فيهما، وإنما قُدّم كونُه بيانًا للمكذبين مع أنه غيرُ مَسوق له على كونه هدىً وموعظةً للمتقين، مع أنه المقصودُ بالسياق لأن أولَ ما يترتب على مشاهدة آثارِ هلاكِ أسلافِهم ظهورُ حالِ أخلافِهم، وأما زيادةُ الهدى أو أصلِه فأمرٌ مترتبٌ عليه، وتخصيصُ البيانِ للناس مع شموله للمتقين أيضا لما أن المرادَ به مجردُ البيانِ العاري عن الهدى والعظةِ، والاقتصار عليهما في جانب المتقين مع ترتّبهما على البيان لما أنهما المقصِدُ الأصليُّ، ويجوز أن يكون تعريفُ الناسِ للجنس أي هذا بيانٌ للناس كافةً، وهدى وموعظةٌ للمتقين منهم خاصة. وقيل: كلمةُ هذا إشارةٌ إلى ما لُخِّص من أمر المتقين والتائبين والمُصِرِّين. وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} الآية، اعتراضٌ للحث على الإيمان وما يُستحَقّ به ما ذُكر من أجر العاملين. وأنت خبيرٌ بأن الاعتراضَ لابد أن يكون مقرِّرًا لمضمون ما وقع في خلاله، ومعاينةُ آثارِ هلاكِ المكذبين مما لا تعلقَ له بحال أحدِ الأصنافِ الثلاثةِ للمؤمنين وإن كان باعثًا على الإيمان زاجرًا عن التكذيب، وقيل: إشارةٌ إلى القرآن ولا يخفى بُعدُه. اهـ.

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
الإشارة إما إلى القرآن وهو المروي عن الحسن وقتادة وخدش بأنه بعيد عن السياق وإما إلى ما لخص من أمر الكفار والمتقين والتائبين، وقوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ} [آل عمران: 137] الآية اعتراض للبعث على الإيمان والتقوى والتوبة كما قيل ووجه الاعتراض لدفع الاعتراض بأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه وهنا ليس كذلك بأن تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب لآكلي الربا وهذه الآية دلت على الترهيب ومعناه راجع إلى الترغيب بحسب التضاد كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعدّ من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي فيتأتى التوكيد دون نقص، واعترض عليه بأنه تعسف، وإما إلى ما سلف من قوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ} الخ، وهو المروي عن أبي إسحاق، واختاره الطبري والبلخي وكثير من المتأخرين.
وأل في الناس للعهد، والمراد بهم المكذبون، والظرف إما متعلق ببيان أو بمحذوف وقع صفة لهم أي هذا أيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر (بالسير والنظر) السابق وإن كان خاصًا بالمؤمنين على المختار لكن العمل بموجبه غير مختص بهم ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا في عاقبة أسلافهم ليعتبروا بذلك، والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة، والهدى بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق الغي، والفرق بينه وبين البيان أن الثاني إظهار المعنى كائنًا ما كان ولكون المراد به هنا ما كان عاريًا عن الهدى والعظة خصه بالناس مع أن ظاهره شامل للمتقين.
والمراد بهم مقابل المكذبين وكأنه وضع موضع الضمير بناءًا على أن المعنى وزيادة بصيرة وموعظة لكم للإيذان بعلة الحكم فإن مدار ذلك كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم وعدم تكذيبهم، وقدم بيان كونه بيانًا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على بيان كونه هدى للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم، وأما الهدى فأمر مترتب عليه والاقتصار على الأمرين في جانب المتقين مع ترتبهما على البيان لما أنهما المقصد الأصلي.
وقيل: أل في الناس للجنس.
والمراد بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون به وينتجعون بوعظه وليس بالبعيد وجوز بعضهم أن يراد من المتقين الصائرون إلى التقوى فيبقى الهدى والموعظة بلا زيادة، وإن يراد بهم ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل فيحتاج الهدى وما عطف عليه إلى اعتبار ما يعم الابتداء والزيادة فيه، ولا يخفى ما في الثاني من زيادة البعد لارتكاب خلاف الظاهر في موضعين وأما الأول: ففيه بعد من جهة الارتكاب في موضع واحد وهو وإن شارك ما قلناه من هذه الحيثية إلا أن ما ارتكبناه يهدي إليه في الجملة التنوين الذي في الكلمة ولا كذلك ما ارتكبوه بل اعتبار الكمال المشعر به الإطلاق ربما يأباه ولعله لمجموع الأمرين هان أمر نزع الخف. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}.
انظر إلى الكلمة {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} إن البيانات عندما تتأتى تأخذ قوتها وسطوتها وعظمتها من قوة من أصدر البيان؛ أنت ساعة تجد ثورة في مجتمع ما فإننا نسمع كلمة بيان رقم واحد تهتز له الدنيا وهو بيان قادم من بشر فما بالنا بالبيان القادم من الله؟
إنه أيضاح من الله: أنا لن آخذكم على غرة {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} والهدى: كما نعرف هو الطريق الموصل للغاية المرجوة.
والموعظة معناها: حمل النفس ترغيبًا وترهيبًا، لعمل الخير بالترغيب، والبعد عن الشر بالترهيب، تلك هي الموعظة.
وكل هذه الأشياء عندما جاءت في ثنايا آيات أُحُد بعد أن أخذنا منها العبرة والحدث ما زال ساخنًا. لذلك فقبل أن يكمل لنا قصة أُحُد استثار النفوس بهذه المسألة، ووضع لنا الأشياء المادية والقيمية؛ لنأخذ بها في حياتنا، وحتى لا تنتهي قصة أُحُد وينصرف الناس عن العظات التي كانت فيها.
وما دامت المسألة هكذا، وكان المقاتلون في سبيل الله هم جنود الحق، وعرفوا ذلك بتأييد الله لهم ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بينهم. وهو حامل المعجزة الدالة على صدقه؛ لذلك فالذي حدث في معركة أحُد لا يصح أن يضعفكم؛ لأنكم تعرفون كيف يسند الله الحق ويقويه. وتعرفون حملة الله على الباطل. وقد أوضحنا لكم السنن والبيان، ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.

.من فوائد ابن عبد ربه:

.فصل في مواعظ الحكماء:

قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وَجْهَه: أُوصيكمِ بخَمس لو ضرَبتم عليها آباط الإبل لكان قليلًا: لا يَرْجوَن أحدكم إلا ربّه، ولا يخافنَ إلا ذنبه، ولا يستحي إذا سُئل عما لا يَعلم أن يقول: لا أعلم. وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قُطع الرأس ذهب الجسد. وقال أيضا: من أراد الغِنَى بغير مال، والكثرةَ بلا عَشية، فليتحوَّل من ذُلِّ المَعصية إلى عزِّ الطاعة أبى الله إلا أن يُذِلّ مَن عصاه.
وقال الحسنُ: مَن خاف اللهّ أخاف اللهّ منه كل شيء، ومن خاف الناسَ أخافه الله من كل شيء.
وقال بعضُهم: من عَمِلَ لآخرته كَفَاه الله أمرَ دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح اللهّ ما بينه وبين الناس، ومَن أخلص سريرتَه أخلص الله علانيَته.
قال العُتْبيّ: اجتمعت العربُ والعجم على أربع كلمات: قالوا: لا تَحْملنّ على قلبك مالا يُطِيق، ولا تعملنَّ عملاَ ليس لك فيه مَنْفعة، ولا تَثِقْ بامرأة، ولا تغتر بمال وإن كثُر.
وقال أبو بكر الصدِّيق لعُمَر بن الخطّاب رضي الله عنهما عند مَوته حين استخلْفه: أُوصيك بتقوى الله، إن للّه عملًا بالليل لا يَقْبَلُه بالنهار، وعملا بالنهار لا يَقْبَله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تُؤَدَّى الفرائض، وإنما ثَقُلَتْ موِازين مَن ثقُلت موازينهم يومَ القيامة باتباعهم الحقّ وثقَلِه عليهم، وحُقّ لميزأن لا يُوضعِ فيه إلا الحقُّ أن يكون ثقيلا، وإنما خَفّت موازينُ من خَفّت موازينهم يومَ القيامة باْتباعهم الباطل في الدُّنيا وخِفّته عليهمِ، وحُقِّ لميزأن لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا، وإن الله ذَكَر أهلَ الجنَّة فَذكَرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوَزَ عن سيئاتهم؛ فإذا سمعتَ بهم قُلْت: إني أخاف أن لا أكون من هؤلاء؛ وذكرَ أهل النار بأقبح أعمالهم، وأمسك عن حَسَناتهم، فإذا سمعتَ بهم قلتَ: أنا خيرٌ من هؤلاء، وذكر آية الرّحمة مع آية العذاب ليكونَ العبدُ راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله غيرَ الحق. فإذا حفظت وصيَّتي فلا يكون غائبٌ أحبَّ إليك من الموت، وهو آتيك؟ وإن ضيّعْت وصيَّتي فلا يكون غائبٌ أكرَه إليك من الموت، ولن تُعْجزه.
ودخل الحسن بن أبي الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يُصَوِّب بصره في صُندوق في بيته وُيصَعِّده، ثم قال: أبا سَعِيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أُؤَدِّ منها زكاةً، ولم أصِل منها رَحِمًا؟ قال: ثَكِلَتْكَ أُمك، ولمن كنتَ تَجْمعها؟ قال: لرَوْعة الزِمان، وجَفْوة السلطان، ومُكاثرة العَشيرة. قال: ثم مات، فشَهده الحسنُ، فلما فَرَغ من دَفْنِه، قال: انظروا إلى هذا المِسكين، أتاه شيطانُه فحذّره رَوْعة زَمانه، وجفوة سُلطانه، ومُكاثرة عشيرته، عما رزقه اللهّ إياه وغَمره فيه، انظروا كيف خرج منها مَسْلوبًا محروبًا. ثم التفتَ إلى الوارث فقال: أيها الوارث، لا تُخْدَعَنّ كما خُدِعَ صوَيْحبك بالأمس، أَتاك هذا المال حلالًا، فلا يكونن عليك وبالا، أتاك عفوًا صفوًا، ممن كان له جمُوعا مَنُوعا، من باطل جَمَعه، ومن حقً مَنَعه، قطع فيه لُجَجَ البِحار، ومفاوِزَ القِفار، لم تَكْدح فيه بِيَمين، ولم يَعْرَق لك فيه جَبين. إِنّ يوم القيامة يوم ذو حَسَرَات، وإن من أعظم الحسرات غدًا أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها عَثَرة لا تُقال، وتوبة لا تُنال.
ووعظَ حكيم قومًا فقال: يا قوم، استَبْدِلوا العَوَارِيَ بالهِبات تَحْمَدوا العُقْبَى، واستقْبِلوا المصائب بالصَبْر تستحِقُّوا النُّعْمَى، واستَدِيموا الكَرَامة بالشُّكر تَسْتَوْجبوا الزِّيادة، واعرفوا فَضْل البَقاء في النِّعمة، والغِنَى في السلامة، قبل الفِتْنَة الفاحِشةِ، والمَثُلة البينة، وانتقال العَمَل، وحُلول الأجَل، فإنما أنتم في الدُّنيا أَغراض المَنايا، وأَوطان البلايا، ولن تنالوا نِعْمَة إلا بِفِراق أُخرى، ولا يَسْتقبل مُعَمَّر مِنكم يومًا من عُمره إلا بانتقاص آخرَ من أجله، ولا يَحيا له أَثر إلا مات له أَثر. فأنتم أعوان الحُتُوف على أنفسكم، وفي معايشكم أسبابُ مَنَاياكم، لا يَمنعكم شيء منها، ولا يَشْغَلكم شيء عنها. فأنتم الأخْلاف بعد الأسلاف، وستكونون أَسلافًا بعد الأخلاف. بكل سبيل منكمِ صَرِيعٌ مُنْعَفر، وقائم يَنْتظر، فمن أيّ وجه تَطْلُبون البَقَاء وهذان الليلُ والنهِارُ، لم يرْفعا شيئا قَطّ إلا أسرَعا الكرَّة في هَدْمه، ولا عقدا أَمرًا قطُّ إلاَّ رَجَعا في نقضه.
وقال أبو الدَّرْداء: يا أَهل دمَشق، مالكم تَبْنون مالا تسكنون، وتأمُلون ما لا تُدرِكون، وتَجمعون ما لا تأكلون، هذه عادٌ وثمود قد مَلَئُوا ما بين بُصْرَى وعَدَن أموالًا وأولادًا، فمن يَشْتري مني ما تركوا بدرهمين؟ وقال ابن شُبْرُمَة: إذا كان البَدَن سقيمًا لم يَنجع فيه الطعام ولا الشراب، وإذا كان القلب مُغْرَمًا بِحُبّ الدنيا لم تَنْجِع فيه الموعظة. وقال الربيع بن خُثَيم: أَقْلِل الِكلام إلا من تِسع: تكبيرِ وتهليل وتسْبيح وتَحْمِيد وسؤالِكَ الخير وتَعَوّذِك من الشرّ وأمرِكَ بالمعروف ونهْيِكَ عن المُنْكر وقراءتك القرآن.
قال رجل لبعض الحكماء: عِظْني. قال: لا يَراك اللهّ بحيث نَهَاك، ولا يَفْقِدك من حيثُ أمرَك.
وقيل لحكيم: عِظْني. قال: جميعُ المواعظ كلّها مُنتظمة في حرف واحد؟ قال: وما هو؟ قال: تُجْمِع على طاعة الله، فإذا أنت قد حَوَيت المواعظ كُلَّها.
وقال أبو جعفر لسُفْيان عِظْني، قال: وما عَمِلتَ فيما عَلِمْتَ فأعِظَك فيما جهلتَ؟!
قال هارون لابن السمّاك: عِظني. قال: كفي بالقرآن واعظًا؛ يقول الله تبارك وتعالى: {ألمْ تر كيفَ فَعَلَ رَبكَ بِعَاد إرَمَ ذَاتِ العِماد التي لمْ يُخْلَق مثلُها في البِلاد}. إلى قوله: {فصَّبّ عليهم ربك سَوْط عَذَاب إنَّ ربك لبَالمِرْصاد}.

.مكاتبة جرت بين الحكماء:

عَتَبَ حَكيمٌ على حكيم، فَكَتَبَ المَعْتُوبُ عليه إلى العاتب: يا أخي، إنّ أيام العُمْر أقصرُ من أن تحتمل الهَجْر. فَرَجع إليه.
وكتب الحسنُ إلى عُمَر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكُن، وبالآخرة لم تَزَل. والسلام. وكتب إليه عُمر: أما بعد، فكأنّ آخر من كُتِبَ عليه الموت قد مات، والسلام.